عمر البشير والمؤتمر الوطني ... بقلم: بدرالدين احمد موسى الفيصل
نشر في سودانيل يوم 25 - 10 - 2014
عمر البشير والمؤتمر الوطني, دايلما السجين اليائس, و خيارات المعارضة الصعبة
بقلم بدرالدين احمد موسى الفيصل
كاليفورنيا, الولايات المتحدة الامريكية
بترشيح عمر البشير لفترة جديدة في منصب "رئيس" الجمهورية- المغتصب-رغما عن البنود الواضحة في دستورهم الذي كتبوه و طبعوه و وزعوه على الناس, صار واضحا امام كل الناس ان الطاغية و حزبه يلعبان بعقلية "الفورة مليون". البشير و المؤتمر الوطني الان في حالة من السجن الانفرادي بطوعهما و اختيارهما. و سجنهما, يا لسخرية القدر, من نسج افعالهما بعد ان امعن نظام الانقاذ في تقتيل ابناء الشعب السوداني و اغتصاب بناته و تعذيب معارضيه و التنكيل بهم, فانقلب السحر على الساحر, و صار السجان سجينا يكتنفه الرعب و الذعر و انعدام الوزن, و يتخبط كمن به مس. الحقيقة هي انه ما من احد في قيادة حزب المؤتمر الوطني, يريد ان يضع نفسه في نفس قفص عمر البشير, و هو يعرف انه سيكون مطلوب منه ان يفعل واحد من اثنين: يا اما ان يسلم عمر البشير للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي, او اذا ما تردد في فعل ذلك, سيكون هو نفسه مطلوبا و مطاردا بنفس الطريقة. و كما اشار السيد الصادق المهدي في تصريح له بالامس (23 اكتوبر 2013) في مجلة حريات الالكترونية, فان "ملاحقة المحكمة الجنائية للبشير تسبب مشكلات للسودان". كنت قد تنبأت بهذه النتيجة باكرا و منذ الايام الاولى لصدور قرارات المحكمة الدولية, بأنها سوف تستديم حكم الطاغية في السودان, لانها تقفل الافق امام اي حل سلمي, سواء باحلال البشير من داخل حزبه او بواسطة عملية تفاوضية مع المعارضة. المشكلة الان في ان السودان كله شعبا و معارضة و نظام, كلهم, صاروا رهينة لتلك القرارات و سجناء حالة العجز و الانسداد بموجبها.
قرارات المحكمة الدولية بالقبض على عمر البشير و هو يشغل منصب "رئيس" جمهورية السودان- اغتصابا- لا تخالف فقط مواثيق منظمة الوحدة الافريقية, و ليست فقط اداة من ادوات الاستعمار الحديث, بل فوق كل ذلك هي اداة لانتهاك سيادة الدول الافريقية لا تقل خطورة عن البنك الدولي و صندوق النقد الدولي كادوات ناجعة في خلخلة هياكل الدول المستقلة اقتصاديا و تتبيعها للمنظومة الرأسمالية فيما يسمى بالاستعمار الحديث. و كما انتهت املاءات البنك الدولي و صندوق النقد في احداث حالة انعدام المناعة في النظم الاقتصادية في بلدان افريقيا ما بعد الاستقلال, فان المحكمة الدولية, في استهدافها للمناصب القيادية في الدول الافريقية و اخضاعها للمساءلة امام المحاكم الاوربية فانها احدثت حالة من الايدز في المنظومات السياسية في افريقيا. اقرب مثال هو حالة رئيس كينيا المنتخب و الذي تم اجباره على الاستقالة من منصبه, رغم انف الملايين التي انتخبته في كينيا, ليمثل امام المحكمة في لاهاي تخطيا للقانون الكيني و استعلاء على القضاء الكيني و تغولا على صلاحياته و حقه في البت في الجرائم التي ارتكبت تحت دائرته اثناء الاضطرابات التي سادت كينيا قبل الانتخابات الاخيرة. لكن كينيا كانت قد وقعت على مسودة انشاء المحكمة و قد يكون مسوغ اخلاقيا ان تلتزم بقراراتها, فهي قد قبلت, بقصر نظر ساستها, التوقيع على التنازل عن اهم بنود السيادة للدول المستقلة: و هو استقلال القضاء و عدم رضوخه لقوانين الدول الاخرى او اية منظومات سياسية لا تخضع لناخبيه.
يحاول البعض, اخراج قرارات المؤتمر الوطني بالتخلي عن رئيسه و تركه ل"يشيل شيلته" وحده, و كأن عمر البشير قد نكص-لأنه كذاب- عن تصريحاته السابقة بانه لا ينوي الترشح لفترة جديدة في منصب "رئيس" نظام الانقاذ, لكن الواقع يقول انه لم يكن هناك من مناص و لا خيار امام عمر البشير و لا المؤتمر الوطني. لقد سدت ملاحقات المحكمة الدولية كل الطرق امام تقدم اي شخص اخر من المؤتمر الوطني ليشغل المنصب اذا لم يلتزم التزاما قاطعا بتسليم عمر البشير للمحكمة الدولية. الاخطر من ذلك ان قرارات المحكمة ايضا سدت الافق امام المعارضة السودانية للوصول لاي حل سياسي مع المؤتمر الوطني, لانها هي ايضا ستكون مطالبة بتسليم عمر البشير- و اخرين- للمحكمة الدولية, و الا ستتحول قياداتها التنفيذية و السياسية ايضا لموضوع لملاحقات جديدة. فالسودان الان فيما يسمى بمفارقة 22 المشهورة. في وضع كهذا, لا يوجد طريق اخر امام المؤتمر الوطني الا التخلي عن رئيسه و دفعه دفعا ليشغل منصب "رئيس" جمهورية السودان الي الابد, او حتى موته. هذا, بالضبط, ما صرح به دكتور نافع علي نافع المستشار السابق لعمر البشير و قد كان الثاني في قائمة المرشحين في عملية الاختيار الاخيرة داخل المؤتمر الوطني, حين قال انهم " سيستمرون في الحكم الي ان يسلموا الراية لله" يوم القيامة. على الرغم من ان دكتور نافع مشهور بالحماقة, الا انه فطن لدسائس محازبيه و محاولتهم التضحية به بتقديمه لخلافة عمر البشير و وضعه امام مدافع المحكمة الدولية, فدفع ببطاطسة السلطة الملتهبة لعمر البشير ليشوي بها يديه " الي ان يجعل الله امرا كان مفعولا".
كل المشاكل في التحليل النهائي تتحكم في تعقيدها و حلها معضلة رئيسية واحدة. بحل تلك العقدة يمكن التعامل مع كل العقد الثانوية و الوصول للحل. عقدة السودان الان هي عمر البشير و مجموعة المطلوبين للمحكمة الدولية, او بتعبير اخر المحكمة الدولية. اية محاولة لتجنب التعامل المباشر مع هذه المعضلة ستفاغم المصيبة و تعمق ازمة البلاد, و الحل ليس في يد الانقاذ و لا عمر البشير! الحل في يد المعارضة السودانية. ما يريد ان يقوله المؤتمر الوطني بترشيحه عمر البشير للمعارضة و العالم هو انه "وقف على العقبة", و ان الحل لن يكون الا بواحد من اثنين: يا اما ان ننتظر حتى يموت عمر البشير (منطق المساجين اليائسين) او ان يتم تغييره بطريقة اخرى تختارها المعارضة. خيارات المعارضة هنا محدودة جدا. اذا فاوضت الانقاذ و توصلت لاتفاق مع المؤتمر الوطني يساعد في حل الازمة السياسية في البلاد, سيكون محتم عليها البت في مصير البشير. البشير-الذي يملك كل عناصر القوة الان من جيش و مليشيات و امن و سلاح-لن يقبل طواعية بالخروج من القصر ليدخل السجن. المعارضة امامها واحد من اثنين: اما تسليمه او مواجهة المحكمة الدولية لتحل مكان البشير, ما المخرج اذن؟ الخيار الثاني امام المعارضة هو مواجهة الانقاذ بالعنف و ازاحة المؤتمر الوطني عن السلطة و القبض على البشير و تسليمه للمحكمة الجنائية, هناك عدة عقبات تقف امام ذلك الحل, فتجارب ليبيا و سوريا واضحة و تنذر بحرب متطاولة-و قد تطاولت الحرب في السودان اصلا- و لا توجد اية ضمانات بأن ما سينتج من الحرب سيكون دولة واحدة بنفس حدود السودان اليوم. هناك خيارات صعبة امام المعارضة و ينبغي ان تبدأ منذ الان في التفكير في حلها.
السودان في ورطة حقيقة, فالنظام الحاكم عاجز كل العجز في الخروج من مأزق عمر البشير. الحزب المتسلط على الحكم لن يستطيع استبدال رئيسه الحالي بأي شخص اخر لان سيف المحكمة الدولية سيكون مسلط على عنقه ما لم يقم بتسليم عمر البشير للمحكمة الجنائية في لاهاي. المواجهة المستمرة مع المحكمة الجنائية تدفع النظام لتضييع الوقت املا في اما حل طبيعي بموت او اختفاء المطلوبين للمحكمة الجنائية, وهذا سيديم الازمة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية المستفحلة في البلاد. او انتظار الانهيار الكلي امام الضغوط الاجتماعية و الاقتصادية لتكنسه ثورة شعبية و ستكون تكلفتها عالية في الارواح و الممتلكات, و هو احتمال ممكن و لكنه يحتاج لاعداد و طريقة تفكير مختلفة عما نراه حتى الان. او ان يسقط تحت ضربات عمل عسكري بتكلفة باهظة كما كان من امر معمر القذافي في ليبيا, وقد يستمر في الحكم طويلا تحت ضربات المعارضة العسكرية كما يفعل نظام الاسد في سوريا.هناك احتمال اخر و هو الحل السياسي و سيكون صعب على المعارضة-و لكنه غير مستحيل-وهو الدخول في حوار مع النظام المخرج (بضم الميم) الرئيس فيه هو اعطاء ضمانات لقاء احداث تغيير سياسي يزيح عمر البشير من السلطة.سيكون على المعارضة, اذا اتخذت هذا الخيار سبيلا, ان تعض على الرصاصة بين اسنانها و تتخذ مجموعة من القرارات الصعبة. في كل الاحوال شبح المحكمة الجنائية ماثل و سيكون على المعارضة اتخاذ موقف ازاءها لتخليص السودان من ربق الاستمرار تحت جثة نظام الانقاذ.
badreldinmusa1@sbcglobal.net
—-----------------
https://www.sudaress.com/sudanile/73659