التباسات استراتيجية وتكتيكية في مواقف معسكر الثورة
بقلم : بدرالدين أحمد موسى الفيصل
كاليفورنيا
منذ اندلاع الحرب بين قوات الجنجويد (الدعم السريع) و الجيش السوداني في 15 ابريل من العام 2023 ظهرت العديد من الهنات في مواقف معسكر الثورة. قبل ان افصل في اوجه القصور في سلوك قوى الثورة ولكي لا أزيد في حالة اللاتاكدية التي انتابت الساحة السياسية, ينبغي علي أن أقدم تعريف للمقصود بمعسكر الثورة. اقصد بمعسكر الثورة لجان المقاومة التي وقفت ضد أطماع لجنة أمن البشير بقيادة عبدالفتاح البرهان و محمد حمدان حميدتي و بقية العصابة ووقفت ضد محاولات سرقة الثورة بواسطة بعض القوى السياسية (قحت) التي قالت بضرورة اشراك قيادات الجيش والدعم السريع في سلطة المرحلة الانتقالية. تلك المقاومة التي لم يثني اصرارها التقتيل و التنكيل على يد قيادات الجيش و الجنجويد و شركاهم في قحت. هذه القوى التي ظلت ترفع مطالب و شعارات الثورة, لكنها لم تستطع تطوير موقف من الحرب و القوى المتقاتلة ينقلها من موقع المنادي فقط بوقف الحرب, لموقع الفاعل في تحويل الحرب لحرب ثورية. اذن انا لا اشمل قحت/تقدم في قوى الثورة, لأن أغلب القوى التي تكون قحت وقفت ضد الثورة قبل ان ينزل الثوار للشوارع, ووقفوا مع فكرة مشاركة حكومة البشير في الانتخابات التي كانت تزمع إجراؤها في 2020. قلت ان هناك هنات انتابت القوى في معسكر الثورة اول تلك الهنات المساواة بين الجيش الوطني والجنجويد, وتطور ذلك الموقف ليهدي الجيش لفلول الانقاذ بادعاء ان الجيش هو جيش الكيزان او جيش علي كرتي, و ايضا وقفت قوى الثورة ضد عملية الاستنفار وتجنيد الشباب في صفوف الجيش لمحاربة الجنجويد.
من تلك المفاهيم الخاطئة, ايضا, القول ان تسليح المواطنين يجر البلاد لحرب اهلية! هذا المفهوم/الموقف الملتوي يقوم على التباس في تعريف الحرب الدائرة الآن بانها ليست حرب أهلية, وان الحرب الاهلية تكون بتحول الحرب إلى نزاع قبلي, هذا ينافي كل التعريفات العلمية والاكاديمية لمفهوم الحرب الاهلية. تسليح المواطنين لن يقود لحرب اهلية, لان الحرب الاهلية تجري الان امام اعيننا ولن ينفيها اصرار البعض جزافا ان ما يدور هو عراك بين جنرالين لا يرقى لمستوى الحرب الأهلية.
هل الحرب الدائرة الآن في السودان حرب عبثية؟
الحرب الدائرة في السودان الآن ليست عبثية, فليس هناك حرب عبثية, حسب تعريف مفكر الحرب الجنرال البروسي كارل فون كلوسوفيتز الذي عرف الحرب في كتابة المشهور "عن الحرب On war" بانها
"an act of violence to compel an opponent to do one's will"
أي أن الحرب هي استعمال العنف لإجبار الخصم للخضوع لإرادة المحارب وذهب لأبعد من ذلك ليقول إن الحرب هي ليست فقط مجرد فعل سياسي وإنما هي أداة سياسية حقيقية, وهي مواصلة للصراع السياسي بوسائل أخرى. أي بالعنف.
"war is not merely a political act but a real political instrument, a continuation of political intercourse, a carrying out of the same by other means
ومن تعريف كلوسوفيتز فإن الحرب هي في النهاية ممارسة للسياسة باستخدام القوة العسكرية, وفيها تحاول الأطراف المتقاتلة فرض إرادتها على خصمها لارغامه على الخضوع لشروطها التي تهدف من فرضها لتحقيق مصالح سياسية او اقتصادية او ثقافية الخ. إذن كان يتعين على قوى الثورة قبل الانجرار وراء تعريفات قوى الهبوط الناعم في قحت/تقدم والتي وصفت الحرب بانها عبثية وصراع بين جنرالين وليست حرب اهلية بعد, كان يجب على قوى الثورة دراسة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي بذرت بذور الحرب والمصالح الحقيقية للقوى وراء هذه الحرب. فحميدتي, كمالك وحيد لقوات الدعم السريع وراء حربه التي يشنها على الشعب السوداني مطامح شخصية بعد ان راكم ثروات هائلة من العمولات التي تلقاها كمتعهد توريد مرتزقة في حرب اليمن كقائد لقوة عسكرية استفادت من تسهيلات الدولة لدرجة انها بذت الجيش الوطني في التسليح والتدريب وكطفيلي استولى بالقوة على مناجم الذهب في دارفور وأجزاء اخرى من السودان, كل هذه العوامل جعلته يعتقد بأنه الاولى ليستولى على الحكم. كما تقف وراء حميدتي قوى اقليمية وعالمية لها مطامع في ثروات السودان ومقدراته وفي موقع البلاد الاستراتيجي على البحر الأحمر. تصادمت طموحات حميدتي في الاستيلاء على السلطة وثروات البلاد مع طموحات بعض قادة الجيش وايضا القوات المسلحة الاخرى التي رأت انه من واجبها الوقوف في وجه حميدتي ومن وراءه. وبعد تقييم المصالح والمطامع كان يجب ايضا تقييم الجوانب الدستورية والقانونية التي تقوم عليها واجبات الجيش الوطني وقوات الدعم السريع. أي القوتين يقع على عاتقها, بناء على الدستور واجب حماية البلاد؟ واي القوتين ينص قانونها على تبعيتها للاخرى؟ ثم كان ايضا من الضرور, قبل اطلاق اية احكام, ان نقيم سلوك القوتين. اي القوتين اعتدت على المواطنين واهانتهم و قتلتهم و شردتهم؟ واي القوتين تتمتع بثقة المواطن؟ طرح أسئلة من شاكلة لماذا قامت هذه الحرب, وما هي العوامل التي تسببت فيها وأين يقف طرفي الحرب-الجيش والدعم السريع-من حيث الشرعية والحق في خوض الحرب موقفه من المواطنين وأمنهم وسلامتهم, تقود لاجابات تضع تلك القوى اما واجبات أخلاقية-بما ان الاخلاق هي اتخاذ الموقف الصحيح-وسياسية. تلك الدراسة إذا كانت أجريت, وإذا عرفت الاسباب الحقيقية وراء قيام الحرب كان سيحتم على القوى السياسية اتخاذ موقف موضوعي من الجيش والدعم السريع, وما كان يمكن ان يكون الموقف المتخذ هو المساواة بين القوتين. لكن تعريف الحرب بأنها عبثية دفع قوى الثورة عميقا في عتمة اللاتأكدية, الحالة التي جرتها لتقف وراء شعار لا للحرب, وهو شعار حق لكنه قاد إلى موقف ضبابي وكارثي. مجرد رفع الشعار من غير حراك سياسي ودبلوماسي وعسكري, يعني الوقوف في موقف العاجز. والموقف السياسي والدبلوماسي والعسكري الصحيح كان هو دعم الجيش. اولا لان الجيش هو المنوط به دستوريا وقانونيا حماية البلاد وثانيا لان شعار الثورة كان "العسكر للثكنات والجنجويد يتحل". حل قوات الدعم السريع والمليشيات واجب املته ثورة ديسمبر, وبعد حل المليشيات فان إرجاع الجيش للثكنات سيكون مسألة تفاوض مع قيادة الجيش مثلما حدث في عدد من الدول في العالم و كمثال في الأرجنتين والبرازيل من دول جنوب امريكا.
قوى الثورة وجدت نفسها تحت ضغط متعاظم وابتزاز مفضوح من قوى الهبوط الناعم, لدفعها لتبني موقف الحياد وإلا فإنها, أي قوى الثورة, تتماهى مع فلول نظام الانقاذ وقيادة الجيش. إذن الوقوف ضد مشروع حميدتي وقيام الجيش بدوره المنصوص في الدستور-حماية البلاد وفرض الاستقرار- لا يمكن أن يوصف ذلك بأنه فعل عبثي. مشروع حميدتي/الدعم السريع مشروع لتسليم السودان بالكامل لمطامع دول اقليمية وعالمية في ثروات البلاد والسيطرة على ساحل البحر الأحمر وأيضا هو مشروع لاغتصاب السلطة السياسية لصالح أسرة راكمت ثروتها ببيع دماء وأرواح الشباب السوداني والافريقي برميهم في أتون حرب تخوضها دول إقليمية ضد شعب اليمن. وصف الحرب بأنها عبثية والمساواة بين الجيش وقوات الدعم السريع وتحريض الشباب ليمتنعوا عن الاستجابة لدعوة الجيش للاستنفار لمنع تحول الصراع لحرب قبلية كلها قامت على مفهوم ان الحرب ليست حرب أهلية!
الحرب هي حرب اهلية منذ الرصاصة الأولى:
القوى التي تواطأت مع حميدتي اعتمدت تكتيكين لتكبيل قوى الثورة من اتخاذ أي موقف إيجابي قد يقود للاصطفاف خلف الجيش والدفاع عن ارواحهم واعراضهم وارضهم. أول تلك التكتيكات كان إطلاق بالونة ان الحرب ليست حرب أهلية دون أن يعطوا تعريف لماهية الحرب الاهلية و التكتيك الثاني كان تخويف الناس من تحول الحرب لحرب قبلية, فلو تسلحت ودافعت عن نفسك وعرضك وانت تنتمي لقبيلة فذلك يعني بالضرورة أنك تقف ضد القبائل التي أتى منها معظم مرتزقة الجنجويد.
التزاما بالمنهج العلمي, سأحاول تقديم تعريفات علمية للحرب الاهلية, تدحض دعاوى من لا يريدون للحقيقة أن ترى الشمس و سأعتمد هنا تعريف الحرب الأهلية في مقال ويكيبيديا المعنون (Civil War) الموجود على الرابط https://en.wikipedia.org/wiki/Civil_war)
يقول المقال:"جيمس فيرسون فقيه الحروب الأهلية في جامعة ستانفورد, يعرف الحرب الأهلية بأنها "نزاع مسلح عنيف داخل قطر محدد بين مجموعات منظمة تهدف للسيطرة على الحكم في المركز او في اقليم, او لتغيير سياسات الحكومة" ان هيرونكا, بجانبها, تعرف الحرب الاهلية بان تكون الدولة أحد أطراف الحرب. ستاثيس كاليفاس في كتابه The logic of violence in civil war, ص 17, يعرف الحرب الأهلية بأنها "نزاع مسلح يجري ضمن حدود كيان سيادي معترف به بين قوى كانت تخضع لسلطة واحدة عند اندلاع الحرب".
اذن ووفق التعريفات المقتبسة أعلاه, لا يمكننا أن نعرف ما يدور في السودان إلا أنه حرب اهلية. فهو صراع يجري بين الجيش الوطني-بغض النظر عن موقفنا من قيادته الحالية- و مليشيا اجرامية تخضع لسيطرة شخص واحد وتخدم مصالح دويلة معينة في الإقليم. وما يجري هو صراع على السلطة داخل المركز (الخرطوم) و في عدة أقاليم. الجنجويد يسعون للاستيلاء على السلطة من اجل اقامة دولة "ديمقراطية"" مدنية" بسبي النساء وقتل الرجال والأطفال وتهجيرهم و القضاء على دولة 56 كما يقولون, والجيش يسعى للحفاظ على سلطة الدولة السودانية القائمة ويحتمي به المواطنون الذين هجرتهم مليشيات الجنجويد. و بالطبع الجيش القانوني (الدولة) طرف في الحرب, و الطرفان المتقاتلان كانا يخضعان لسلطة واحدة (الدولة السودانية) بل وكانا شركاء في حكومة واحدة وفق الوثيقة الدستورية المعيبة التي صاغتها قحت ولا تزال تسعى لاسترجاعها-الشراكة- باضافة بنود الاتفاق الاطاري الذي قدح شرارة الحرب كما اقر حميدتي مالك مليشيا الدعم السريع. لا مناص وفق هذه التعريفات من التقرير بأن ما يجري في السودان هي حرب أهلية.
ولكي نثبت أن التسويف في استخدام تعريف صحيح للراهن السياسي يقود لاخطاء استراتيجية, سأقتبس من مقال ماو تسي تونغ المعنون "PROBLEMS OF STRATEGY IN CHINA'S REVOLUTIONARY WAR"
ماو تسي تونغ يقول "الحرب هي أعلى أنواع الصراع لحل التناقضات, عندما تتطور تلك التناقضات لمستوى محدد, بين الطبقات, الأمم, الدول, ومجموعات سياسية, و الحروب وجدت منذ ظهور الملكية الفردية و الطبقات. ما لم تفهم الظروف الفعلية للحرب, طبيعتها وعلاقتها لأشياء أخرى, فانك لن تعرف القوانين المحددة للحرب, ولن تعرف كيف تقود حرب, أو أن تنتصر فيها"
إذن بلا تعريف صحيح لما يجري في البلاد, بغير تعريف صحيح للحرب التي تدور في السودان الان, فإننا لن نستطيع أن نوقفها. ما يجري في السودان حرب أهلية كاملة الدسم. و إذا لم يتدخل الشعب للتاثير في مجرياتها فإنه لن يستطيع ان يوقفها بالصراخ "لا للحرب" مهما ارتفعت عقيرته, الا اذا كان بالامكان اطفاء حريق بأن نقف ونصيح فيها "لا للنار".
النتائج المتوقعة من هذه الحرب كارثية اذا وقف الشعب موقف المتفرج. ستكون كارثة إذا انتصر الدعم السريع (الجنجويد) على الجيش., و ستكون كارثة إذا انتصر الجيش بدعم الكيزان ووقوف قوى الثورة مكتوفة اليد و منزوعة السلاح صبيحة مرور جحافل الكيزان المنتصرة بغطاء الجيش, سوف لن يكون هناك "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"! سيكون خطأ استراتيجي بنتائج كارثية ان يقف الشعب في الانتظار, لابد من ان يلعب الشعب دور فاعل في هزيمة الجنجويد وفي انتزاع المبادرة من أيدي الكيزان الذين يعملون للاستفادة من سلاح الجيش للرجوع للسلطة بقوة البندقية.
خطأ الوقوف في الحياد:
ٍاكتفي لتبيان خطل الوقوف على الحياد بين الجيش والجنجويد باقتباس من الفيلسوف الاستراتيجي نيكولو ميكيافيللي في كتابه الامير. ميكيافيللي كتب كتابه, وهو عصارة دراسات معمقة في التاريخ وسيرة القادة العظماء في العالم, وأهدى الكتاب للأمير الإيطالي لورنزو ميدكي, ليساعده في إعادة مجد الرومان وتوحيد ايطاليا وحمايتها من عدوان جيرانها في أوروبا. وهنا اترجم من طبعة دار دوفر للنشر. كتب ميكيافيللي في صفحة 60 "ليس هناك أكثر ضررا لك من اتباع السبيل الذي يتم تصويره بأنه الأحسن لدولتك, حرفيا امتناعك من المشاركة في حربنا, لانك لن تنال الشهرة او الحظوة بوقوفك موقف الحياد, لكنك بذلك ستكون غنيمة للمنتصر في الحرب. وستجد إن أعداءك دائما ما يشجعونك للوقوف على الحياد بينهم وبين خصومهم, بينما اصدقائك سيحاولون جذبك لتقف معهم بسلاحك. الضعفاء من الأمراء, لينجوا بأنفسهم من الخطر, عادة من يتخذون الحياد موقفا لهم, وعادة ما يؤدي ذلك لدمارهم. ولكن عندما تعلن موقفك بشجاعة في صالح هذا الطرف او ذاك, اذا انتصر الطرف الذي تدعم, ومهما يكن قويا وانت تحت سطوته, لكنه سيكون مدين لك و سيرعى صداقتك, لأنه ليس هناك من عار اكثر من ان يتنكر لمساعدتك اياه. كما أنه ما من نصر يكفي للتخلي من كل الاعتبارات وخاصة اعتبارات العدالة والعرفان. في الجانب الآخر, اذا خسر الجانب الذي وقفت معه, فإنه سيتذكر لك موقفك بجانبه, ويسهب لمساعدتك كلما استطاع وستكون رفيقه في أمر قد ينتصر مستقبلا. وفي المثل الآخر, بالاسم, إذا كان الطرفان المتصارعان من الضعف بحيث انك لا تخاف سطوة أي منهما إذا انتصر, فإنه سيكون من الحكمة أن تعلن وقوفك بجانب طرف دون الآخر, لانك حينها ستستخدم ذلك الطرف لتدمير الآخر, وإذا انتصر من ساعدت, فإنه سيكون تحت سيطرتك" انتهت ترجمتي لكلام ميكيافيللي.
وفقا لنصيحة ميكيافيللي, فانه من الحكمة أن تقف قوى الثورة مع الجيش الذي يتمتع بالشرعية التي يضفيها عليه دستور الدولة و قانون انشائه و الشرعية التي تضفيها عليه حقيقة أن المواطنين احتموا به من جور الدعم السريع. اذا انتصر الجيش فإنه لن يستطيع تجاهل مطالب القوى المجتمعية التي ساندته, وستكون لقوى الثورة كلمة مسموعة لدى الجيش بعد الحرب. كما أن مساندة الجيش تساعده للقضاء على الجنجويد وهو مطلب من مطالب الثورة. لكن للاسف نجد ان قوى الثورة جنحت لتسمية الجيش, كل الجيش, بجيش على كرتي او جيش الكيزان.
خطأ القول بأن الجيش جيش كيزان:
سيقول قائل "ولكن قيادات الجيش كيزان و مليشيات الكيزان تحارب الان مع الجيش, اذن "الجيش جيش كيزان"!
يقول شاؤول الينسكي في كتابه "Rules For Radicals او قواعد اللعب لانصار التغيير الجذري https://chisineu.files.wordpress.com/2014/02/saul-alinsky-rules-for-radicals-1989.pdf
يقول "Power is not only what you have but what the enemy thinks you have"
"السطوة ليست فقط ما تملكه ولكنها تشمل تصورات خصمك عنك".
وفق هذا القول فإننا نرتكب خطأ استراتيجي فظيع بإضفاء قوة للكيزان لا يملكونها, نحن نحول الفأر الذي هزمناه في ديسمبر لاسد باطش و نعطيه "الجمل بما حمل". بالطبع ليس هناك من يشك في أن برهان و زمرته في عصابة لجنة أمن البشير قد يكونوا كيزان او ان لهم مصالح اقتصادية وسياسية مع الكيزان, لكن لجنة البشير ليست هي الجيش و ضباط الجيش ليسوا هم الجيش. الجيش فيه ضباط رايناهم يحمون المتظاهرين امام القيادة العامة و في الجيش جنود وضباط صف يكتوون بنيران الفساد الذي يضرب باطناب البلاد ولهم مصلحة في النهاية في ازاحة لجنة امن البشير من السلطة. و هم ايضا ضد الكيزان ويتوقون لدولة ديمقراطية تعيد المهنية و الكرامة للجيش. الموقف التكتيكي الصحيح هو ان ندعم الجنود وصغار الضباط في الجيش و نساعدهم ليهزموا الجنجويد و سيردون الجميل بعد الحرب بالضغط على قيادة الجيش للاستقالة وتسليم السلطة للشعب والرجوع للثكنات طوعا عرفانا للموقف الذي وقفه الثوار معهم. دعمنا للجنود وضباط الصف وصغار الضباط والضباط الوطنيين في الجيش يكون بتشجيع الشباب ليحمل السلاح ويقف ضد مليشيا حميدتي.
الشعب المسلح سيوقف الحرب بعدة سبل: أولها وقف تمددها في مدن واقاليم اخرى. لن يستطيع الجنجويد مهاجمة مدن وقرى يعرفون أن سكانها سيدافعون عن انفسهم ولن يهربوا من أمامهم, و الشعب المسلح سوف يمنع وقوع السلطة في يد الكيزان صبيحة هزيمة الجنجويد, و يستطيع فرض شروطه على برهان وعصابته. الشعب المسلح هو الوحيد الذي يستطيع أخذ المجرمين, سواء في قيادة الجيش أو في قيادة الجنجويد للمحاكمة و يحقق العدالة. لن يتصور عاقل أن برهان سيذهب طائعا للمحكمة اذا انتصر على حميدتي بعون الكيزان, وفي حالة وقوف الثوار على الحائط بينه وبين الدعم السريع, سيخرج الاقوى و سيتمكن من اقامة ديكتاتورية عسكرية يتمتع فيها الكيزان الصدر والورك وسيجنحون الشعب أو ربما حتى يستخسرون عليه العظام العارية. كما لن يتصور عاقل أن حميدتي سينزل من كرسي مملكته الجديدة ليذهب للمحكمة ليدفع ثمن جرائمه التي ارتكبها في دارفور أو في الخرطوم او الجزيرة, إذا كان الشعب أعزل ولا يستطيع الوقوف في وجهه.
الخاتمة:
ثلاث مفاهيم ملتبسة تم تسويقها لتعريف ما يدور في السودان كمسوغات للوقوف على الحياد بين الجيش ومليشيا حميدتي وحرمت الشعب من القيادة السياسية المفترض أن تقدمها القوى السياسية لإنهاء الازمة ووقف الحرب, تلك المفاهيم فاقمت الحرب وأدت لامتدادها في مساحة شاسعة من البلاد. أولى المفاهيم الخاطئة هي وصف الحرب بأنها عبثية, وانها حرب تدور بين جنرالين. وثاني المفاهيم الخاطئة هو انه لتجنب تحول الحرب لحرب اهلية ينبغي الوقوف على الحياد بين الجيش والجنجويد وحض الشباب على رفض نداء الجيش للشعب ليحمل السلاح, بمعنى ان هذه الحرب ليست حرب أهلية. و ثالث المفاهيم الخاطئة هو أن الاكتفاء برفع شعار "لا للحرب" و الوقوف على الحياد سيوقف الحرب ويقود لاسترداد الثورة وتحقيق الديمقراطية والمدنية.
هناك ثلاث نتائج أفرزتها تلك المفاهيم: اولها الحياد والوقوف على الرصيف والصراخ "لا للحرب" وانتظار معجزة توقف الحرب والتسليم بالمصير الذي سيفرضه المنتصر على الشعب. ثانيا, الحياد في النهاية هو سكوت عن الحق ودعم للمتعدي, وقد كان الحياد في صالح مليشيا حميدتي ووفر لها غطاء سياسي ودبلوماسي واخلاقي بمساواتها مع الجيش. والحياد أيضا قاد لإضعاف الجيش, ثم رميه في براثن فلول النظام السابق والتي سارعت لحمل السلاح وادعاء مساندة الجيش ولكنها تفهم بذلك أنها ستكسب الجيش حليفا وفي حال انتصاره سيكون لها نصيب في النظام الذي سينتج بعد هزيمة حميدتي. و لكن هل ذلك فعلا كل ما هو متاح أمام قوى الثورة؟
هناك موقف آخر, الموقف الذي يليق بالثوار: وهو تسلح الشعب, للدفاع عن نفسه ومساندة الجيش ليستطيع هزيمة الجنجويد اولا ثم بعد الحرب إجبار عصابة لجنة البشير ليسلموا السلطة للشعب.